أدب وشعر

لا بأس إن ارتحتَ اليوم

 

يكابد مُرَّ العيش ليقنع التّحديات أنّه أهلٌ لها. ويبذل سنوات العمر الطّوال لاهثاً ليحفر اسمه على جبين المجد. هو ذا الإنسان… لا يرضى أن يكون نسياً منسيًّا. ويدوس على تعبه ليضع بصمةً برّاقةً لا تذبل نجومها بعد رحيله. ليضحّيَ بذلك بكلّ شيء حتى راحته. لأنه يخاف من لعنة الوقت. ويسعى جاهداً أن يستثمره بما يدعم حلمه وحسب. ولو كلّفه هذا الهدف أن يستغني عن أوقات فراغه. رغم أنّ ذلك قد يعود عليه بالتكاسل والفشل. ولكنّه يخشى أن تكون هذه الراحة لصًّا لوقته وهدّامةً لهدفه.

نحتاج جميعنا للراحة مهما كابرنا. وفي الحقيقة، ليست الراحة انتقاصاً من النجاح. بل هي إنعاشٌ للدماغ، وفرصة غنية ليتحرر من تعبه الذي نشأ عن التركيز المفرط. هذا عدا عن استرخاء الجسد لمن يمارس النشاطات الرياضية المكثفة. فهذا الجسد بدماغه الفذّ ليس آلة كما نعتقد. وفي حال صمّمنا على هذا الإجحاف، فإن الآلة أيضاً تحتاج لوقود كي تستكمل أداءها بنشاط. أليس ما يجدد وقودنا هو تجديد الشغف بالكتابة والتنزه وغيرها ؟ وكيف نجدد شغفنا بدون راحة؟
المسألة باختصار عمليةُ مقايضة: أي نمنحنا الراحة، لنأخذ طاقة. وهي تماماً ما نحتاج لتمضية دربنا الطويل نحو المعالي. وعلى عكس ما يقنعنا مدراء العمل، فإنّ الموظف الذي يترك عمله ليدخّن سيجارة، ليس متقاعساً. لكنه يتصرف بذكاء تجاه وظيفته. فهو عندما يفصل عن جو العمل الضاغط ممازحاً زميله، يرفّه عن نفسه ليعاود للعمل بجدّ. مع الإشارة أن الحياة لم تخلق للعمل وحسب. صحيحٌ أنه جوهرها، لكنّ ظروفها القاسية تتطلب منّا أن نصنع وقتنا الخاص. فالمشي على الشاطئ ليس رومانسية تافهة… بل تغذية بصرية وروحية. وزيارة أقاربنا ليس عادةً قديمة، بل كسباً لرضا الله ليسدد خطانا فيما نفعل.

بالمقابل، قد تنقلب هذه الرّاحة فخًّا، إن لم نحسن استغلالها. فنحن بذكائنا في إدارة الوقت نستطيع استثمار كلّ فرصنا لتقرّبنا من هدفنا… حتى الراحة منها. فخلال رحلتنا الشاطئية مثلاً قد نسمّع ما حفظناه في الهواء الطلق. وقد نطبّق الحركة الرياضية التي عرقنا لنتمكن من أصولها. وهنا، قد نطرح سؤالاً يثير في الأذهان فضولاً: أين الراحة في أن نمارس ما نرتاح منه في الأساس؟
إذاً، علينا التركيز على فكرة التحايل على التعب لنكسب راحةً وفيرة. فأن تكون ملك الوقت، أرحم من أن يلاحقك. والفرق يكمن في كوننا نستطيع أن نتدرب على عملنا بحرية. فنتنفّس وقتما نشعر بالإجهاد دون أن نجبر أنفسنا على التحمل. هذا بالإضافة إلى احتمالية إيجاد الطرق اليسيرة لحلّ المعضلات التي كانت تعقّد عملنا. لأننا حينها محرّرون من المسؤوليات والخوف منها ولو مؤقتاً.

إنّ جملة “ليس لديّ وقت” هي الراعي الرسمي لكلّ خططنا. فنجد أنفسنا أمام المأزق الصعب: لا نجد وقتاً للراحة. ولكي نتفادى هذه الحيرة، لا بدّ أولاً من التخطيط السليم. والتخطيط ليس جداول ملونة… بل هو اتفاقية سلام مع الذات أن تقوم بواجبها الكامل تجاه حلمها مقابل أن توفر لها حقّها الأساسي بالراحة. وإنّ وضع نماذج تخطيط موحّدة يعدّ فكرةً فاشلة. فكلٌّ منّا أدرى بوقته وآلية توزيع طاقته. فمن يصل لأعلى درجات التركيز ليلاً، لن يخطط لينجز المهمّات الرئيسية صباحاً… ولو كان مدربو التنمية البشرية يتحدثون في محاضراتهم عن أهمية الاستيقاظ الباكر. ومن يستصعب حلّ المسائل الرياضية سيمنحها وقتاً مضاعفاً عن المواد الأخرى… ولو كان الفيزياء هو الأهم في تخصصه. كما وعلينا التأكيد على أنّ أغلبية الخطط تبقى مجرد حبر على ورق. وعليه، فإنّ آلية التنفيذ هي الخطوة المفصلية. قد نجعل الراحة مثلاً مكافأةً لنا على إتمام عمل شاقّ. وليس جريمة أن تشعر بالاختناق في منتصف عملك أو دراستك. فنفسُك طفلٌ عنيد. تحتاج لعقلك أن يكون والداً متفهّماً لمزاجيتها ومحتوياً لتعبها. فعلى قدر الصبر تأتي الانتصارات.

صفوة القول، لا تدنو القمّة لنا بالصدفة. تحتاج سواعد قويّة لننال النصر بجدارة. ولكنّ التوازن خيرٌ من القوة. وهو الضامن للوصول نحو طموحنا مهما اشتدت وعورتُه. فالنجاح لا يتحدّدُ بطول الوقت وكمّ الجهد، بقدر ما يتأثر ويعلو سقف تألّقه بقيادة الوقت وتنظيم هذا الجهد. ويبقى السؤال: أين وقتنا من مواقع التّواصل الاجتماعي؟ وهل ترانا نخرج من حربنا الالكترونية الباردة منتصرين على مغرياتها؟ أم أنّ جمع الإعجابات بات فوزنا الوحيد؟

زر الذهاب إلى الأعلى