الموسيقى زاد القصيدة
لا يحتاج الإبداع معجزةً ليطير بأرواحنا. يكفينا التناغم القائم بين التفاصيل ليضمن العمل الفنيّ إقامته الدائمة في القلوب أولا وفي الذاكرة الفنية ثانيا. وكأنّ عناصره أسرة… لا تنجح إلا حين يغمرها الشعور كأنّ إحساس الفنان أمّ حنون. ولا تتماسك إلا بسند حكيم, كأنّ المعرفة أبُ الفنّ. أمّا الأولاد الذين ينكّهون البيت الدافىء بالتنوع واختلاف شخصياتهم, فهم ذاتهم الحيل الفنية التي تعطي للمنتوج الفنّي طعماً مميزاً يرفعه عن الرتابة. والأمر ليس ببعيد عن القصيدة. فتآلف الكلمات مع بحرها هو ما يعطيها لقب قصيدة باستحقاق وجدارة. وإنّ التوزيع الذكي للألحان داخليا وخارجيا هو ما يمنحها صفة التفرد. وفي هذا السياق, ليس من العدل أن تنفصل الفنون مهما اختلفت في ألوانها وطرق تعبيرها. فالشعر مهما بلغ, يحتاج للموسيقى كي تلوّنه. والموسيقى تحتاج للحروف كي توظّف أنغامها.
تأسّسَ الشّعرُ على الموسيقى منذ نعومةِ محابره. وكانت البدايةُ حين سمع الخليل بن أحمد الفراهيدي للطقطقةِ في سوقِ النّحاسين. فاستندَ إلى النّغمةِ المنتظمة في الطَّرقِ على الحديد لخلْقِ الأوزان الشّعرية. هذا بالإضافة إلى تأليفه لكتاب “النّغم والإيقاع” ليتمكّن من ضبط الأوزان من خلالِ النّغم الموسيقي. وإنّ اشتراطَ وجود القافية والوزن ليُسمّى الشّعرُ شعراً هو دليلٌ قاطع على أنّ الشّعرَ ذو هويّة موسيقيّة. وفي هذا الصّدد، نذكر أنّ ثمّةَ علاقة وطيدة بين موسيقى البيت والعاطفة المشحونة فيه. فالبحر الطّويلُ مثلاً مناسبٌ للأناشيدِ المحفليّة كما يقول عبد العزيز شرف في كتابه “النغم الشّعري عند العرب”. ويعود ذلك لكونه وزناً ضخماً وكثير التفعيلات. أمّا الوافر والمتقارب فهما بحران خفيفان لطيفان. ويعَدَّان من البحور ذات المرونة المثاليّة للقصائد العاطفيّة والحماسيّة. فيقول أبو القاسم الشّابي على المتقارب:
وناجي النّسيمَ وناجي الغيـومَ
وناجي النّجومَ وناجي القمـَرْ
إليكِ الجمالُ الذي لا يبيـدُ
إليكِ الوجودُ الرحيبُ النضِرْ
مع الإشارة أنَّ الأبيات الأولى من هذه القصيدة تُستخدم في النّشيد الوطني التّونسي. ونضيف أنّ كوكبَ الشّرقِ ذات الأغاني العالقة في الذاكرة العربية على مرِّ العصور أعطَت للقصائِدِ نصيباً من تاريخها الفنيّ. فغداً ألقاك تقوم على تفعيلةِ بحر الرّمل، وقصيدة سلوا قلبي موزونةٌ على الوافر. وهذا ما يشير إلى طواعيّة القصائد للغناء. والجدير بالذّكر، أنّ الغناءَ كان جزءًا لا يتجزّأ من مجالس الشّعرِ العباسيّة والأندلسيّة. وهذا ما يدلّ قطعاً على أنّ الشّعر يجب أن يترافق مع الأناقة الموسيقيّة ليستسيغه المستمع. فمَن منّا يحفظ “جادك الغيث” -وهي قصيدةٌ أندلسيّة- بدونِ ألحان؟ وكيف تغيب عن بالِنا قصيدة بشار بن بُرد حين سرقَت “ذات الدّلّ” قلبه بموسيقاها قبل قصيدتها. فراح يصدح قائلاً:
فَغنَّت الشَّرْبَ صَوْتاً مُؤْنِقاً رَمَلاً
يُذْكِي السرور ويُبكي العَيْنَ أَلْوَانا
فَقُلت: أَطربْتِنا يا زيْنَ مجلسنا
هاتِ فإنّكِ بالإحسانِ أولانا
وفي حديثنا عن القولبة الموسيقيّة للنّصّ الشّعريّ، ينبغي علينا الإشارة إلى دور الموسيقى الدّاخليّة في التّعبير عن مكنونات الحالة الشعوريّة. ولعلّ الموسيقى هي أرقى الإيحاءات في القصيدة. وهذا ما دفع النُّقّاد لإطلاق مصطلح “موسيقى الشّعر”. وهي كلّ ما يزيد القصيدةَ موسيقى. وتشمل في معناها التّرصيع، الجناس، السّجع وغيرها من المحسّنات. وقد جاء التّرصيعُ عند امرئ القيس قائلاً:
مُكِرٌّ مفرٌّ مدبرٌ مقبلٌ معاً
كجلمودِ صخرٍ حطّه السّيلُ من علِ
ولا ننسى أنّ هذه الألحان قد تكون بذاتها هي المعنى. ويتبين ذلك عند جناس الشّاعر:
فدارِهِمْ ما دمتَ في دارِهم
وأْرضِهِم ما دمتَ في أرضهِم
بالمقابل، علينا القول أنّ الشّاعرَ مسؤولٌ عن إنقاذ قصيدته من الرّتابةِ تحت تأثير الرّنين الشّعريّ الأجوف. وبالتالي، فإنَّ الموسيقى ملحُ الشّعر… قليلُها يفقد القصيدةَ لذّتها الجمالية. وكثيرُه يُتخِمُها بالضّوضاء. وكون الشّعر مرآة القلب، نتذكر قول جبران خليل جبران:
أعطِني النّايَ وغنِّ
فالغِنا عدلُ القلوبْ
وكأنه يقولُ لنا أنّ العدلَ في الموسيقى ضمانٌ للقلبِ أنْ تنعكس أسرارُه بأبهى حلّة عبر القصيدة.
صفوة القول، الشّعرُ هو لونٌ موسيقيٌّ مميز. لا تعزفه آلة بل تختص به الحروف. والموسيقى حالةُ شعورٍ بالكلمات. وبينهما نحنُ رُسُلُ فنّ تنطق موسيقى قصائدنا وقصائدُ موسيقانا بحكاياتٍ تقدّسها الأرواح قبل المسارح. وهنا، نطرح سؤالاً يثير في الأذهان فضولاً: هل ستغرّد في المسارح معجزةٌ إبداعيّة في زمنٍ صار اللحنُ فيه بوحاً قاتمَ الصّدى ويتيمَ الشعور؟ أم أننا اعتدنا على كسرِ أجنحةِ المبدعين بالتّصفيق المنافق لخربشاتٍ تافهة تدّعي أنها شعر؟