«فتنا على أساس قطبتين، بقينا أسبوعين. الخيط انسحب وبقيت الإبرة والحكيم ما عرف يشيلا». واحدة من حوادث تتكرّر في أقسام طوارئ المستشفيات. هناك حيث تخطّت نسبة العاملين غير الكفوئين، من غير اللبنانيين، الـ70% في بعض الأحيان. فالكفاءة، كما في نواحٍ كثيرة من يوميات اللبناني، باتت أقرب إلى وجهة نظر. وإن دلّ ذلك على شيء، إنّما يدلّ على استهتار شبه ممنهج في المستشفيات وتراخٍ في التصدّي في نقابتي المستشفيات والأطباء، بحسب متابعين. أما وزارة الصحّة، فغيبوبتها عميقة وطويلة.
لن نعود إلى قضية الطفلة صوفي مشلب ومحاولة نقابة الأطباء المستميتة التلاعب بالمستندات حماية للمرتكبين على حساب الضمير الإنساني والمهني؛ ولا إلى قضية ابراهيم شقير الذي قضى على مدخل طوارئ مستشفى لم يستقبله؛ ولا إلى حكاية سوزان منصور التي توفّيت على يد طبيب تبيّن أنه غير مسجّل في النقابة؛ ولا حتى إلى مأساة إيلا طنوس والتعطيل المتعمّد للعدالة لأكثر من ست سنوات. ثمة قضايا أنصفها القضاء، مشكوراً، بعد صراع مرير مع «مافيا» القطاع الطبّي. لكنّ التعويضات المالية لا تبلسم آلام الخسارة. ولا هي تنقذ مشاريع ضحايا جددٍ طالما أن «سحْب إذن مزاولة المهنة» من المفاهيم غير المُدرجة في قاموس النقابة.
هناك حالات «صامتة» كثيرة بذريعة أنها «بتصير مرّة كلّ ألف مرّة، وصادفت هالمرّة مع فلان». لا بل «القصة طلعت قصة مادّة بمادّة…». هذا ما سمعناه من الطبيب (و.خ.) بعد أن تواصلنا معه على خلفية اتّصال وردنا من السيّدة ريتا ياغي، تشرح فيه معاناتها بعد تعرّض زوجها لـ»خطأ» طبّي على يد الطبيب المذكور في قسم طوارئ مستشفى الجامعة الأميركية. «ما معي وكِّل محامي، وإدارة المستشفى عاملتلي «بلوك»، ونقيب الأطباء ما سأل. يمكن إنتو تقدروا توصلولي صوتي. عندي 3 ولاد وزوجي بسبب يلي صار ما اندفع معاشو. مين بيعوّضلي وكيف منعيش؟».
قصة الإبرة والخيط
ظهر يوم 26 شباط الماضي، وإذ كانت ياغي تقوم بأعمال التنظيف المنزلية، انزلقت قدم زوجها، فارتطم أنفه بحافة السرير. نزف الرجل كثيراً، فتوجّهت به الزوجة إلى مستشفى الجامعة الأميركية حيث تلقّاه الدكتور (و.خ.) في قسم الطوارئ. وبعد معاينة أوّلية، أخبرهما الطبيب بأنه سيغرز قطبتين في الأنف ويجري صورة إشعاعية للتأكّد من عدم وجود كسر. «أثناء التقطيب، سمعت زوجي يصرخ ألماً، وإذ بطبيب يدخل وآخر يخرج. سألت عمّا يحصل، فأجابوني بأن الإبرة علقت في الأنف لدى سحب الخيط». ثم ما لبث أن خرج الدكتور (و.خ.) ليخبر ياغي بأن هذا الحادث الطبّي يحصل بمعدّل حالة من أصل 100 ألف حالة، وأنه طلب طبيباً جرّاحاً واختصاصيّ ترميم وتجميل. بعد أكثر من سبع ساعات قضاها الزوجان في قسم الطوارئ، أبلِغا بقرار إدخال المريض إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية في اليوم التالي على يد نقيب الأطباء، الدكتور يوسف بخاش.
«طلبت صباحاً التحدّث إلى د. بخاش فأبلغني مساعده بانشغاله وطمأنني حيال سهولة الإجراء الذي لا يستغرق أكثر من عشر دقائق. لكن زوجي دخل إلى غرفة العمليات ليخرج منها بعد ساعتين ونصف… والإبرة لم تُزل من أنفه». أصرّت ياغي على التواصل مع بخاش لكنه لم يحضر، مردّداً كلام مساعده: «يبدو الإبرة غميقة… ارجعوا بعد أسبوع ومنشوف شو منعمل».
توجّهت ياغي إلى مكتب الشكاوى داخل المستشفى لشرح ما حصل، فطُلب منها المراجعة بعد أسبوع. «قبل المغادرة، أعلمني قسم المحاسبة بضرورة تسديد مبلغ ألف دولار. فجُنّ جنوني. ما ذنبي؟ هذا خطأ المستشفى والطبيب. وحين علا صراخي أتاني أحد المسؤولين معتذراً وغادرنا».
محاولات «لملمة»
مجرّد التفكير بوجود إبرة معكوفة داخل أنف الزوج (كما في الصورة) حوّلت أيام العائلة إلى جحيم. «كان الألم شديداً ويستحيل الانتظار أسبوعاً للمراجعة، فتوجّهنا إلى طبيب صديق. بعد المعاينة وإجراء صورة إشعاعية جديدة، أخبرنا أن هذا النوع من العمليات ليس من اختصاص طبيب جرّاح بل طبيب أذن وأنف وحنجرة. وأكّد أن عملية التقطيب من الداخل قرار خاطئ أساساً كون الأنف يلتئم من تلقاء نفسه». توازياً، تواصلت ياغي مع الدكتور (و.خ.)، فراح يقنعها بإجراء العملية في مستشفى آخر عارضاً تكفّله بمتابعة الموضوع. غير أنها أصرّت على تحمُّل مستشفى الجامعة مسؤولياته، خصوصاً أن شركة التأمين لا تقوم بتغطية إجراء كهذا، ولا قدرة للعائلة على تسديد المبلغ.
وهكذا حصل. فبعد التواصل مع مكتب الشكاوى، جرى تحديد موعد مع الدكتور زينة قربان التي وصّفت ما حصل بـ»الغلطة»، بحسب ياغي. وبالفعل، أنجزت العملية قبل أيام – وخلال عشر دقائق – على يد قربان. «توجهت إلى مكتب الشكاوى بالشكر لكنني أصررت على أن يتحمّل الطبيب مسؤوليته، إذ من حقّنا المطالبة ببدل عطل وضرر. فما حصل معنا أثقلنا بأعباء نفسية قبل أن تكون مادية. لكن، حتى الساعة، لم يتجاوب مكتب الشكاوى مع الطلب، بحجّة ضرورة تقديم فواتير رسمية بالمصاريف أو شكوى بواسطة محامٍ لا قدرة للعائلة على توكيله. فهل يعقل ألّا يكون المستشفى على بيّنة بالتكاليف المباشرة وغير المباشرة؟
المال ورسالة الطبّ
حاولنا لعدة أيام التواصل مع النقيب بخاش لكن دون جدوى. وبعد محاولات متكرّرة للاتّصال بإدارة المستشفى باءت هي الأخرى بالفشل، تواصلنا مع الدكتور (و.خ.) الذي أشار إلى أن ما حصل حادث طبّي وليس خطأً، وأن المستشفى قام بواجباته كاملة والمريض بخير ولا خطر على صحّته. لكن من يعوّض نفسياً ومعنوياً وحتى مادياً على المريض وعائلته؟ أجاب: «ما علاقتكم أنتم؟ هل لجأت إليكم ياغي كمحكمة؟ لستم أنتم من يحصّل حقّها بل هناك لجنة مختصّة في المستشفى. معيب أن تشهّر بنا ونحن لم نقصّر تجاههم. كان بإمكان الزوج الذهاب إلى عمله، لأن الإبرة لا تسبّب أي ألم. أصبحت المسألة مسألة «مصاري»… قصة مادّة بمادّة يعني». استمعنا إلى الطبيب قبل أن نوضح أننا أخذنا على عاتقنا متابعة المسألة بعد أن حظرت إدارة المستشفى الاتّصال مع ياغي وبات التواصل بين الطرفين مقطوعاً. فختم: «بكرا مننزل عالإدارة ومنشوف شو منعمل».
وهذا الـ»بكرا» لم يأتِ. مصدر طبّي مطّلع إدارياً أعرب في حديث لـ»نداء الوطن» عن أن ثقافة المال ورأس المال هي التي باتت تتحكّم في إدارات العديد من مستشفيات لبنان ونظامها الطبّي. فلعبة المال التي تزداد «قساوة» والفساد المستشري داخل بعض الإدارات بسبب عقلية المحاصصة أبعدا المستشفيات عن رسالتها الطبّية فاستحال جني المال هدفاً. «نعرف، مثلاً، من استفاد من نظام الملف الطبّي الإلكتروني (EPIC)، الذي كلّف مئات ملايين الدولارات، داخل مستشفى الجامعة الأميركية. صحيح أن هناك مصاريف هائلة يتكبّدها المستشفى، لكن التعريفات باتت تتخطّى المعقول. الخطأ الطبّي واضح في حالة ياغي ولا مجال للتشكيك فيه، وعلى المستشفى أن يتحمّل مسؤوليته لأن العطل والضرر من حقّ المريض».
المصدر نفسه لفت خاتماً إلى أن الموضوع شائك وليس من مصلحة نقيب الأطباء التكلّم به، لا سيّما أن عدداً كبيراً من المستشفيات، وبسبب النقص في عديد الطواقم الطبّية في أقسام الطوارئ والسعي خلف تقليص الرواتب، راح يوظّف سوريّين كثراً ممّن لا يتمتّعون بأي كفاءة ويُسمح لهم بإجراء العمليات حتّى.
لمحاسبة المستشفيات المخالفة
من جهته، أفاد مصدر في وزارة الصحة «نداء الوطن» بأن هناك شكاوى كثيرة ترد إلى الوزارة بشكل متواصل، منها ما يعالَج داخلياً، ومنها ما يحال إلى النقابات المختصة (الأطباء، الممرضات والممرضين والمستشفيات). إلّا أن الردود تأتي متأخرة، إن أتت، ما يجعل اتّخاذ القرارات أو القيام بإجراءات أمراً نادر الحدوث.
ولدى سؤال نقيب المستشفيات الخاصة، سليمان هارون، حول ما إذا كان المريض بأمان بعد كلّ ما نسمع، أجاب: «ما زالت الكفاءات موجودة داخل الطاقم الطبّي ولا مفرّ من المضاعفات إذ يستحيل ألّا تقع أخطاء في العمل الطبّي. علماً بأن لبنان، مقارنة مع دول أخرى، ما زال ضمن الهامش المعقول». أما بالنسبة لاستخدام عمّال وأطباء سوريين داخل المستشفيات، فاعتبر ذلك مخالفة فاضحة للقانون ويجب التقدّم بشكاوى ضدّ المستشفيات المخالفة لاتّخاذ الإجراءات اللازمة. لكن أين دور الرقابة وعن أي شكاوى نتحدّث وهي التي «تنيَّم» في أدراج وزارة الصحة؟ «لا علم لي بالأمر. نحن لا يمكننا إجراء مراقبة دائمة على المستشفيات، فكلّ منها مسؤول عن أعماله. من يقول هذا الكلام من داخل الوزارة «ما معو خبر شي» لأننا نتحرّك فور ورود أي كتب أو مراجعات».
على أي حال، قصّة ياغي ليست استثناء. فهذه عيّنة عن حوادث طبّية حصلت في عدد من المستشفيات في الآونة الأخيرة: رجل يتعرّض لضربة قوية على الرأس ويعاد إلى منزله، بعد إجراء صور الأشعّة في طوارئ أحد المستشفيات، على أنه بخير، ليَلي ذلك نزيف حادّ بعد ساعات كاد يودي به؛ مريضان يرقدان في الفراش منذ أشهر بسبب خطأ في عملية التخدير؛ سيّدة تدخل قسم طوارئ مصابة بتجلطات دموية وتعطى الإذن بالخروج لتبدأ رحلة معاناة مع مضاعفات عدم العلاج.
كثر يأبون التسليم بحتمية تقهقر القطاع الطبّي. كلّنا أمل، طبعاً، وهو الذي كان يوماً بوصلة لقطاعات أخرى كثيرة. لكن الخشية من أن نكون، للأسف، بإزاء ما هو أبعد من قصة أنف وإبرة وخيط.