الفن سيد الأطباء
الفنّ زادُ الرّوح وكوثر الإبداع الذي لا تجفّ منابعه إلا ليجعل كلّ روحٍ منه حيّة. وفي معرضه الجميل، لا يخبو البريق. وتتنافس الحالات الشعورية لتثبت كلٌّ منها صدق تعبيرها وعذوبته. ففي العزف، تتشارك اللهثات أنغامها مع المزامير. وفي الشعر، تنتظم الحروف ستاراً لنبضٍ حائرٍ لا ينتظم. وفيما تتنوع أوجه الفنّ، يبقى الهدف واحداً. فرسالته هي الارتقاء بالروح وانتشالها من مهاوي القلق. فكأنّ الفنّ تفتح النافذة على عالم عامر بالجمال والدفء. وهذا ما حوّله من غايةٍ كمالية إلى وسيلة تكميلية… تسير بذات الخطّ مع العلاجات الوقائية، بل وتملك ذات الأهمية والتأثير.
يعدّ الفنّ مساحة الراحة للذات التائهة حينما تحاصرنا ضغوط الحياة، وتشدّ الطوق على أرواحنا. والله سبحانه وتعالى كما خلق للجسد أوصالاً تربط بين أعضائه من أعصاب وأوتار ومفاصل، فالروح تتّصل بطمأنينتها من خلال الفن. بل إنّ الروح المستقرة تقوم على أساسه. وفي هذا السياق، يقول فرويد أنّ الطفل الذي يلعب يشبه الكاتب المبدع. وذلك لأنه يبتكر عالماً خاصًّا بطريقته الخاصة. وعليه، فإنّ الفنّ هو أسلوب بناء للنفسية قبل أن يكون تجسيداً فوق الورق وعلى المسارح. وحين يتجسّد فعليًّا، فهو مرآة صادقة تتكلم بالنيابة عن ذات الإنسان. فاللوحة ذات الألوان الذابلة تنبئ بذبول روح صاحبها. والمقطوعة الموسيقية قد تكون خيراً من ألف تنهيدة وجع. هذا عدا عن كون ميولنا الفنية تعبّر عن مكنونات النفس البشرية. فاللون المفضل يفصح عن طرق علاج الإنسان. فالشخص الذي يحب الأزرق، سيكون البحر كبسولة مسكّن فعالة لإرهاقه النفسي. والذي يحبّ الأسود، ستكون الحفلات المدججة بالأضواء ضاغطةً على نفسيته. والجدير بالذكر، لا يكشف الفن الحالة النفسية وحسب، بل ويتوغّل عميقاً في الأنا اللاواعية. وذلك لكشف الدوافع المكبوتة التي أدّت بالمتعالج إلى حاله. وعلى سبيل المثال، يعتمد المختصون النفسيون طريقة “خط الحياة”. وهو المتمثل برسم خطّ طويل، والوقوف عند كل نقطة من هذا الخط حينما يتذكر الخاضع للتمرين موقفاً مهمًّا في حياته. فيرسم شكلاً يعبّر عن حالته النفسية على هذه النقطة. وبالتالي، يتعرف المحلل على الذكريات الأكثر تاثيراً في نفس الإنسان والتي تسبّبت بحدوث ارتدادات نفسية سلبية لديه.
بدأ العلاج بالرّسم مع الفنان البريطانيّ “أدريان هيل”. وهو الذي وجد أن الرسم علاجٌ حقيقيّ خلال الفترة تعافيه من السّلّ. لأنّ الورق سبيل تفريغ للطاقة. فالأصابع تتحرك، والعيون تركز والعقل يوجّه الخيال لموضوع معين. وقد تتحول الطاقة السلبية المختزنة إلى إيجابية حينما يرى المريض صنع أنامله. هذا بالإضافة إلى أنّ الأدوات المستخدمة في الرسم تعبّر إلى حدّ كبير عن صراعات النفسية الإنسانية. فالمستخدم للفرشاة العريضة مثلاً يعاني من الوحدة. ويحاول أن يلفت نظر الآخرين إليه. فاستخدمها ليبرز الألوان ويشدّ الانتباه. وكأنّ الألوان تعبّر عما يحتاج، أي نداء نفسيته المبطن لجذب اهتمام الآخرين إليه.
رغم تنوّع وجوه الموسيقى بين تراجيديّ وعاطفي وحماسي، تخلق جميعها جوٍّا روحانيًّا مريحاً. فيقول حكيم هنديّ” عذوبة الألحان توطّد آمالي بوجود أبدية جميلة”. ويُذكر في التوراة أن النبيّ داوود كان يخفف من غضب الملك شاوول بالعزف على القيثارة بحشب مقالة قناة الجزيرة عن الفن في علاج الاضطرابات النفسية. فكم من رضيع غفا مطمئناً بعدما مسحت النوتات الهادئة على رأسه كأمٍّ حنون؟
ألم يَقُلْ جبران في المواكب:
أعطِني النّاي وغنّ
فالغنا عدلُ القلوب؟!
ونظراً لهذه الأهمية، فالطبيب الفرنسيّ “أندريه فرتين” هو أول من عالج مرضاً دماغياً بالمعزوفة الشهيرة “بحيرة البجع” بحسب مذكراته. فالدماغ قائد الإنسان. والموسيقى تهذّب أداءه. وفي هذا الصّدد، يقول “أدرسولا لي جوين” : لم أشكّ للحظة أن الموسيقى والتفكير متشابهان، بل يمكن القول إن الموسيقى هي طريقة أخرى للتفكير، وربما التفكير ما هو إلا نوع آخر من الموسيقى.
يقول شكسبير: تعالوا وخذوا ما تشاؤون من مكتبتي وتناسوا بها الآلام. ولكن من المؤسف أن الجيل الجديد من الشباب غالبا ما يهجرون الكتب في عصر التعلق الأعمى بالشاشات. مع العلم أنها أصبحت العلاج المعتمد في أهمّ مراكز العلاج العصبي الوجداني في لندن تحت مسمّى “بيليوثيرابيا”. فالأدب القصصي مثلاً يشاركُ المريض النفسيّ وحدته. وذلك من خلال اختيار الروايات التي تتشابه فيها معاناة البطل مع المريض. هذا عدا عن تخصيص جلسات قراءة جماعيّة للكتب الداعمة للصّحة العقليّة ككتاب “أراك على القمة” لزيج زيجلار و”عقدك النفسية سجنك الأبدي” وغيرها. وكيف لنا أن ننسى أنّ الآية الأولى التي نزلت على الرسول الكريم كانت اقرأ؟
أليس في ذلك دلالة قاطعة على أن القراءة رسول سلام للقلوب؟ أولم يحثّنا سبحانه وتعالى في سورة الزّمر على قراءة القرآن لنَجنيَ طمأنينة لقلوبنا قائلاً: ثمّ تلين قلوبهم وجلودهم إلى ذكر الله؟
صفوة القول، الفنّ ملاذ آمن للمتعبين من التحديات الوجودية الصعبة. فهو ينظم العقل الصاخب بما فيه من رقيٍّ واتزان. ويبلسم الروح المضطربة بما فيه من جمال وإبداع. فما أرقانا أن نتخذ من القصائد ضمادات! وما أزهر قلوبنا أن تنبض بحبّ بيتهوفن. ولكن يبقى السؤال: هل توجد في أوطاننا العربيّة المراكز المؤهلة لتعتمد الفنّ علاجاً؟ أم أنّنا نعيش في بلادٍ تختصّ في تحطيم النفسيات وحسب بدلاً من علاجها؟