
في حروبنا مع العدو الإسرائيلي، ليست القذائف وحدها هي التي تقتل، بل هناك أسلحة أخطر تُستخدم في الخفاء أبرزها العملاء. هؤلاء الذين يبيعون أوطانهم مقابل حفنة من الدولارات، أو تحت وطأة الابتزاز، ليصبحوا جزءاً من آلة القتل الإسرائيلية.


خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، لعبت هذه الشبكات دوراً مدمراً في خدمة العدو، فكيف يتم تجنيد هؤلاء العملاء؟ وما الأضرار التي سببها وجودهم؟ وكيف يمكن كشفهم ومواجهتهم؟
كيف تجند إسرائيل العملاء؟
بحسب مصادر أمنية، وبناء على معطيات التحقيقات التي أجريت مع عملاء خلال كل السنوات الماضية، فإن أجهزة المخابرات الإسرائيلية (الموساد، الشاباك، أمان) تعتمد على أساليب متطورة ومتنوعة في تجنيد العملاء، أهمها الإغراء المالي والوظيفي، تبدأ من استهداف ضعاف النفوس أو المحتاجين مادياً، ولا تنتهي بتقديم وعود بالهجرة إلى أوروبا أو الحصول على وظائف برواتب عالية مقابل معلومات بسيطة في البداية، ثم تصاعد المطالب.
من خلال هذه الطريقة تمكنت إسرائيل من تجنيد الكثير من العملاء في لبنان، آخرهم من يتم التحقيق معه اليوم من قبل المحكمة العسكرية.
كذلك هناك طريقة الابتزاز العاطفي والأخلاقي ، من خلال اختراق حسابات الضحايا على وسائل التواصل واستخراج صور أو معلومات خاصة لابتزازهم، واستغلال العلاقات العاطفية عبر إنشاء حسابات وهمية لجمع المعلومات.
ومن ثم هناك آلية التجنيد الفكري والأيديولوجي، من خلال استقطاب أشخاص لديهم خلافات مع المقاومة أو حزب الله وهؤلاء قد يكونون الأخطر.
الحزب لم يُسلم بفرضية العميل بعد
لا تأتي الخيانة دائماً بصورة واضحة. إسرائيل تعتمد على أساليب نفسية ومالية معقدة لاصطياد ضحاياها، وخلال الحرب الأخيرة على لبنان تبين أن العدو الإسرائيلي إلى جانب التطور التكنولوجي الكبير والضخم الذي يعتمده في الحرب، كان يمتلك أكثر من عميل يصنفون ضمن خانة “بنك المعلومات”، فبحسب المصادر الأمنية لم تتمكن إسرائيل من تحقيق ما حققته لولا تدخل يد العملاء على الأرض، مع العلم أن الحزب حتى اليوم لم يُسلّم بشكل نهائي، بانتظار اكتمال التحقيقات الداخلية، بفرضية وجود عميل في أكثر أماكن العمل دقة، وهو مكتب “الأماكن” حيث تبين أن العدو يمتلك بالتفصيل الممل إحداثيات كل المواقع والمراكز ونقاط تواجد المحمولات وأنظمة الدفاع الجوي وغيرها، و”داتا” كهذه لا يمكن جمعها من خلال أطراف متعددة بل من مصدر واحد، وهذا المصدر لا يوجد مثله سوى في مكتب واحد.
الدليل الذي يُقدمه أصحاب هذه النظرية هو أن الحزب خاض الحرب بمواقع ومراكز وتموضعات مستحدثة، تم استحداثها قبل اندلاع العدوان الواسع، في أيلول، بأشهر قليلة، وهذا يعني إما أن هذه المواقع لم تُدرج على اللوائح ضمن مكتب “الاماكن” بعد وهذا محتمل ولو بنسبة قليلة، وإما أنها أدرجت ولكنها لم تكن ضمن الداتا التي حصل عليها العدو، وبالتالي لم يكن اختراقه لهذا المكتب إلكترونياً ليحصل على المعلومات الجديدة، وما يدعم هذه النظرية الاخيرة هو أن العدو الإسرائيلي استهدف أماكناً كانت مستخدمة في السابق ولم تعد كذلك رغم تحديثها في مكتب “الأماكن”.
وفي نفس السياق، تكشف المصادر عن وجود رأي داخل حزب الله يقول أن “العمالة” كانت سبباً باغتيال الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، مقابل رأي آخر يرفض هذه المقولة، وهذا ما يُفترض أن تُظهره التحقيقات، ولو أن الرأي الغالب داخل الحزب هو وجود عملاء على مستوى عالٍ، مع الإشارة إلى أن مسألة تفجيرات الأجهزة والبيجرات لم تكن، بحسب التحقيقات غير النهائية، من فعل عميل بل جراء تقصير أمني كبير.
عملاء .. وأزمة انضباط
أضاءت قضية توقيف م. ص، كمشتبه به في قضية العمالة لإسرائيل على معاناة جديدة نسبياً يُعاني منها الحزب، وهي تحوّل الأمن إلى حديث يومي، وغياب الإنضباط، فبحسب المصادر، لم يكن الحزب في بداياته سوى تنظيم محكم، لا يخرج منه “كلمة”، ولا تُعرف خطواته حتى من أقرب المقرّبين، فكانت السرية جزءاً من القوة، والانضباط خط الدفاع الأول، أما اليوم، فقد أصاب هذا البناء تصدّع خطير، والمعلومات الأمنية باتت على كل لسان، والتفاصيل تُروى في المجالس العامة كأنها أخبار عادية، وهذا ما استفاد منه الموقوف، والذي يُتوقع أن لا يكون حالة فريدة لوحدها.
داخل الحزب تركيز كبير على هذه المسألة، فمن يُفترض بهم أن يكونوا خط الدفاع الأول، من كوادر وعناصر أمنية، تحولوا إلى مصدر تسريب، بوعي أو من دونه، فانتقلت الأسماء، والتحركات، وحتى التعيينات والقرارات الحساسة إلى الفضاء العام، وهذه ليست مجرد “هفوات فردية”، بل خلل في العقيدة الأمنية والانضباط التنظيمي. والأثمان المدفوعة ليست فقط معلوماتية، بل بشرية أيضاً.
كيف يمكن مواجهة خطر العمالة؟
لم يعد بالإمكان مواجهة “العمالة” بالعمل الأمني وحسب، كما لم يعد باستطاعة الحزب مواجهتها منفردأ، فالمواجهة تتطلب خطة شاملة تشمل تعزيز الأمن الداخلي، تطوير أجهزة مكافحة التجسس وتدريبها على أساليب الموساد الحديثة، تشديد العقوبات على من يثبت تعاونه مع العدو، تفعيل التوعية المجتمعية، وتحذير الشباب من أساليب التجنيد عبر الإعلام والمدارس، تحسين الظروف الاقتصادية وتوفير فرص عمل في المناطق الفقيرة لقطع الطريق على الإغراءات المالية ودعم أهالي الجنوب الذين يُستهدفون بشكل مكثف، تعزيز الوحدة الوطنية لمواجهة المحاولات الإسرائيلية لإثارة الفتنة بين الطوائف، ومواجهة الحرب النفسية، وهذا ما يفترض أن يشكل جزءا من استراتيجية الأمن الوطني في المستقبل.