قبل موعد محاكمته بأيام زعم نور زهير، المتهم الأول في قضية سرقة الأمانات الضريبية العراقية في ما يعرف بـ”سرقة القرن” بإنه “مظلوم”، وهدد في لقاء مع قناة الشرقية، بكشف أسماء المتورطين معه في القضية، في حال كانت المحاكمة علنية.
وبينما كانت الأنظار تتجه لموعد مثوله أمام القضاء في الثامن والعشرين من آب الحالي، انتشرت في وسائل الإعلام صور لزهير من العاصمة اللبنانية بيروت، ظهر فيها محمولا على نقالة، وتلطخ جزء من ملابسه ببقع حمراء، قيل إنها دماء نزفها “إثر حادث”.
وسرعان ما شكك نواب عراقيون بـ”الحادث” المزعوم، فيما أثيرت أسئلة كثيرة عن كيفية خروج زهير من العراق، وهو المتهم الأبرز في أكبر قضية فساد شهدتها البلاد منذ عام 2003.
لا يعرف حتى الآن المكان الذي يقطن فيه زهير حاليا، ونظرا لعدم مثوله أمام القضاء يوم محاكمته (28 من آب) بعد مغادرته البلاد في ظروف غامضة، أصدرت محكمة جنايات مكافحة الفساد مذكرة إلقاء قبض بحقه، وطبّقت ذات الإجراء على متهم آخر في القضية هو هيثم الجبوري، النائب السابق، المستشار في حكومة رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي.
وحددت المحكمة التاسع من أيلول المقبل مهلة زمنية لإلقاء القبض على زهير وإحضاره إلى العراق. ونقلت وسائل إعلام عراقية، الأربعاء، عن رئيس هيئة النزاهة القاضي، حيدر حنون، قوله: إنه سيتم تعميم نشرة حمراء بحق زهير في الإنتربول الدولي، كما كشف عن خطوات وإجراءات للحجز على أمواله في العراق والدول العربية. ووفقا لتعليقات نواب عراقيين، وخبراء قانون وباحثين سياسيين، فإن جميع المعطيات، المتعلقة بـ”سرقة القرن” وزهير، تشير إلى أن عملية إلقاء القبض عليه مجددا وإعادته إلى العراق للمثول أمام المحكمة ستكون معقدة و”قد لا تحصل”. ويرتبط ذلك بما ردده من تهديدات في اللقاء التلفزيوني، وبالجهات والأطراف التي “تسنده”، وهي لاتزال بعيدة عن الأضواء. وتتمثل “سرقة القرن” باختفاء مبلغ 3.7 تريليون دينار عراقي، بما يعادل نحو مليارين ونصف مليار دولار، من أموال الأمانات الضريبية. وكانت جهات متعددة قد كشفت عن السرقة قبل نحو شهرين من انتهاء مدة حكم الحكومة العراقية السابقة برئاسة، مصطفى الكاظمي. وكشف كتاب رسمي صادر عن هيئة الضرائب أن مبلغ 2.5 مليار دولار، جرى سحبه بين أيلول 2021 وآب 2022 من مصرف الرافدين الحكومي، عبر 247 صكا ماليا، حرّر إلى 5 شركات، قامت بصرفها نقدا مباشرةً. وعلى إثر انكشاف السرقة تحركت “هيئة النزاهة” والسلطة القضائية للتحقيق في القضية، وصدرت عدة أوامر قبض قضائية، وكان أول المعتقلين زهير، واسمه الكامل “نور زهير جاسم المظفر”، وكنيته “أبو فاطمة”، وهو من مواليد بغداد عام 1980. بعد ذلك تم إيداعه السجن بالإضافة إلى آخرين، إلى جانب قرارات قضائية بمصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة للمتورطين بالسرقة وكذلك أُسرهم، وفق وكالة “شفق نيوز”. وفي عام 2023، قرر القضاء العراقي رفع إشارة الحجز عن شركة تابعة لزهير، ومن ثم أعلن رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، عن قيام المتهم الأول بـ”سرقة القرن” بتوزيع أمواله على متنفذين من بينهم “سياسيين وإعلاميين”، ملمحا إلى ارتفاع عدد المتهمين. ووقتها أعلن السوداني أيضا أن القاضي المختص أصدر أمرا بإطلاق سراح نور زهير “بكفالة”، مقابل تعهده بتسليم كامل المبلغ المسروق خلال مدة أسبوعين، مشيرا إلى أن القسم الأكبر من المبلغ لدى المتهم عبارة عن عقارات وأملاك. يشكّل المبلغ الذي أعاده زهير إلى خزينة الدولة بعد خروجه من السجن بكفالة ما نسبته 12 بالمئة من كامل الأموال التي تتجاوز 2.5 مليار دولار، وفق تصريحات سابقة للنائب في البرلمان العراقي، ماجد شنكالي. وقال شنكالي بعد انتشار الأخبار المتعلقة بخروج زهير إلى خارج العراق إن الأخير “لن يكون بإمكانه إعادة المبالغ المتبقية، المقدرة بـ80 بالمئة، لأنها وصلت إلى شركاء كثر”، على حد تعبيره. قبل شنكالي أوضح رئيس هيئة النزاهة في العراق، القاضي حيدر حنون أن النص القانوني المتهم به زهير هي 11/444، وليس 331 من قانون العقوبات العراقي، وأن “هذه الجريمة جناية وليست جنحة لأن المادة الأخيرة تخص الموظفين”. وأضاف حنون في 14 من آب الحالي: ” نتمنى أن نصل في هذه الجريمة إلى حكم مغلّظ ورادع”، مشيرا إلى “سلوك غير منضبط للمتهم بعدما حصل على الكفالة بتنقله وتدخله بأمور أخرى، وكأنما يقول أنا أقوى من كل عقوبة وجهاز”. وبالفعل كان زهير و”من يقف خلفه” أقوى من العقوبة، وهو ما تؤكده عملية خروجه على وسيلة الإعلام المحلية ومن ثم مغادرته البلاد. وهو ما يشير إليه أيضا خبراء قانون تحدث معهم موقع “الحرة”. يوضح النائب السابق القاضي العراقي، وائل عبد اللطيف، لموقع “الحرة” أن النص القانوني 11/444 كان يتيح لزهير مغادرة العراق، كونه منح “كفالة” ولديه كفلاء تكفلوا بأموال طائلة. ويعتقد أن المتهم الأول بـ”سرقة القرن” ربما أعطى معلومات عن شركائه مقابل حصوله على “الكفالة” لكن المسار لم يستكمل، بسبب وجود “وجبة من الرؤوس الكبيرة”، على حد تعبير عبد اللطيف. ومن حق القضاء أن يمنح أي متهم “الكفالة”، وهي تعرف في السلك القضائي بأنها “معونة للقضاء” من أجل الحصول على معلومات مهمة. ومع ذلك يرى القاضي عبد اللطيف أن “ذكر كل الأسماء التي ساهمت في سرقة القرن سوف تسقط العملية السياسية” في البلاد. ومن ناحية أخرى في ذات السياق، يقول الخبير القانوني العراقي، أمير الدعمي إن حصول زهير على “كفالة” وخروجه من السجن ربما يكون مرتبطا برؤية خاصة بالمحكمة. وقد يكون ذلك بهدف استرداد الأموال من المتهم، ولاسيما أن للأخير عقارات كثيرة في الداخل والخارج، و”ربما تحتاج تواقيع وحضورا من جانبه شخصيا”، وفق الدعمي. ويضيف الخبير القانوني لموقع “الحرة” أن مذكرة إلقاء القبض على زهير مرة ثانية كانت أمرا متوقعا، بسبب عدم حضوره جلسة المحاكمة، ويتوقع أيضا أن يتم تعميم النشرة الحمراء الخاص به على الإنتربول الدولي. ولم تكشف السلطة القضائية أسماء الكفلاء الذين كفلوا زهير قبل عامين. ويشير القاضي عبد اللطيف إلى أنه، وبناء على المعطيات الموجودة ومغادرة المتهم الأول بـ”سرقة القرن” العراق، من المفترض أن يمثل الكفلاء أمام القضاء، لكي يدفعوا الأموال التي وضعوها من أجل تكفيل زهير في السابق. وتواصل موقع “الحرة” مع مدير المكتب الإعلامي لهيئة النزاهة في العراق، علي محمد، الذي قال إن موضوع الكفلاء و”الكفالة” المرتبطة بزهير متعلق بالقضاء والمحكمة. وأوضح محمد أنه، وبحسب تصريحات قاضي التحقيق “يوجد مسؤولون سابقون متورطون بسرقة القرن إلى جانب زهير”. وعند سؤاله عن احتمال وجود مسؤولين حاليين، أكد محمد أن الأمر “مرتبط بمسؤولين سابقين”، بحسب التصريحات الرسمية. وأضاف أن إجمالي المبلغ المسروق يبلغ 3 تريليون و891 مليار دينار عراقي، واعتبر أن “عمل المحكمة والقضاء هو الخيمة والغطاء التي ستصدر بموجبها الإجراءات المقبلة”. وفي وقت سابق، وصف رئيس الوزراء العراقي السوداني المتهم زهير بأنه “الصندوق الأسود” لسرقة القرن. وفي المقابل كان الأخير كشف في مقابلته الأخيرة مع قناة “الشرقية” عن وجود 5 شخصيات متورطة معه في سرقة الأمانات الضريبية. ويسود اعتقاد كبير لدى نواب عراقيين بأن قضية السرقة التي يتصدرها زعير إعلاميا تخفي وراءها كثيرا من أسماء سياسيين وشخصيات كبيرة متورطة. وما يؤكد ذلك أيضا تصريحات المتهم الأول بنفسه والتوضيحات الأخيرة الرسمية التي خرجت من هيئة النزاهة والحكومة العراقية. فعندما أطلق سراح زهير بـ”كفالة” لم يكن عليه منع سفر، وعلى هذا الأساس استطاع أن يسافر ويغادر العراق، كما تقول سروة عبد الواحد، رئيسة كتلة “الجيل الجديد” في مجلس النواب العراقي. وتؤكد عبد الواحد في حديث لموقع “الحرة” أنه “توجد جهات داعمة لزهير”، و”إلا كيف يتصرف بهذه الطريقة واتجه قبل أسابيع لتهديد الآخرين!”. وعلى القضاء العراقي في الوقت الحالي أن يكمل كل الإجراءات والتحقيقات. وعليه أيضا أن يتجه لإلقاء القبض على كل الضالعين بـ”سرقة القرن”، وفق عبد الواحد، مشيرة إلى أن “زهير كان قد تحدث عن عدة أسماء”، وأنه “يجب إلقاء القبض على عليهم ومحاكمتهم”. وتعتقد عبد الواحد أن “مصير زهير سيكون مثل مصير بقية السارقين الذين هربوا إلى خارج العراق والآن يتمتعون بأموال السرقات”. وتعتبر أن “بعض الجهات السياسية داعمة لزهير وشريكة معه. المتهم قال إن بذمته تريليونا و300 مليار دينار عراقي ومن المؤكد أن بقية الأموال موجودة عند شركائه”. و”من غير المعقول أن يكفّل زهيّر ويطلق له العنان ومن ثم يهرب خارج العراق”، كما يرى عضو اللجنة القانونية النيابية في العراق، عارف الحمامي. يقول الحمامي لموقع “الحرة” إن تصور وجود جهات خلف المتهم الأول بـ”سرقة القرن” واضح جدا بالاستناد إلى تصرفاته وسير العملية الحاصلة. “هناك جهات تدفع لطمس معالم الجريمة من خلال تهريب نور زهير والدفع به للهروب وعدم عودته للبلاد حتى لا تنكشف الأسماء”، كما يتابع عضو اللجنة القانونية النيابية. ويتحدث الحمامي عن “مراكز قوة في مؤسسات الدولة وجهات متورطة تقف وراء المتهم نور زهير، وهي من الحكومة السابقة والحالية”. وبينما يعتقد القانوني العراقي أن “أجهزة الدولة العراقية ستتحرك” بعد إصدار مذكرة إلقاء القبض للمرة الثانية، يرجح أن زهير “لن يعود أو يلقى القبض عليه أو أن يتم العثور عليه بالأصل”، على حد تعبيره. وينخر الفساد كافة مؤسسات الدولة والإدارات العامة في العراق، ورغم صدور إدانات قضائية إلا أنها نادرا ما تستهدف مسؤولين كبارا، حسبما تشير وكالات بينها “فرانس برس”. ويحتل العراق المرتبة 157 (من 180) في مؤشر منظمة الشفافية الدولية عن “مدركات الفساد”، وغالبا ما تستهدف المحاكمات في قضايا الفساد، في حال حصلت، مسؤولين في مراكز ثانوية. ولا يعتقد الباحث السياسي العراقي، جاسم الشمري، أن نور زهير عبارة عن “واجهة” فحسب، بل هو “جزء من عصابة عنقودية”، على حد وصفه. و”ربما الجزء الظاهر من هذه العصابة يتمثل الآن بشركة الصرافة التي يمتلكها المتهم الأول بسرقة القرن في بغداد”، كما يقول الشمري لموقع “الحرة”. ويظن الباحث أنه توجد سلسلة من الشخصيات الكبيرة والمؤثرة في القطاعات السياسية في العراق تشترك في “سرقة القرن”. وعليه يتوقع احتمالين: الأول أن “يتم التخلص من زهير بعدما هدد بكشف أسماء الشخصيات الكبيرة المشتركة معه في القضية”. ويذهب الاحتمال الثاني باتجاه “التغاضي عن القضية”، وأن “لا يلاحق زهير عبر الإنتربول”. ويتابع الشمري: “القضية لن تخرج عن هذين المحورين. نور زهير يعرف أنه لا يمكن محاكمته بسهولة بسبب هذه الشبكة العنكبوتية، التي هو جزء منها”. ومن جانبه يوضح الأكاديمي والمحلل السياسي العراقي، هيثم الهيتي أن “الفساد في العراق عبارة عن منظومة، وهو ما صرحت به ممثلة الأمم المتحدة في العراق قبل عامين”. ويقول الهيتي لموقع “الحرة”: “الفساد في البلاد عبارة عن مثلث تنظيمي مكون من 3 أبعاد: سياسي واقتصادي وإعلامي”. ونظرا للمبالغ المسروقة المرتبطة باسم زهير و”حرية حركته وسهولة حصوله على الأموال يمكن القول بحسب الأكاديمي العراقي إنه يتولى مهمة “منسق الأمول لسياسيين”. وترسم حرية حركته أيضا صورة من “الحماية التي يحظى بها”، ويضاف إلى ذلك “خروجه من السجن بكفاله رغم المبالغ المسروقة المرتبطة بها، والتي تمثل ميزانيات دول”، بحسب الهيتي. ويعتقد الباحث أن فضيحة “سرقة القرن” قد تكون مرتبطة “بالصراع السياسي-السياسي وصراع النخب، ويمكن النظر إليها كمقدمة للانتخابات المقبلة”. وسبق أن أصدر القضاء العراقي في آذار 2023 مذكرات توقيف بحق أربعة مسؤولين كبار في الحكومة العراقية السابقة التي كان يرأسها مصطفى الكاظمي، وفي مقدمتهم وزير المالية السابق، علي عبد الأمير علاوي. ودافع رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي في تلك الفترة عن سجله في مكافحة الفساد، وأشار إلى أن حكومته هي التي كشفت الستار عن هذه قضية “سرقة القرن”، وفتحت تحقيقا بها، واتخذت إجراءات قانونية. ورغم أن القضية كشف عنها في تشرين الاول 2022 وتسلطت الأضواء عليها في الأيام الأخيرة لحكومة الكاظمي، يؤكد خبراء قانون في العراق أن الشخصيات الضالعة فيها لا تقتصر على تلك الفترة فقط. ويوضح القاضي السابق، وائل عبد اللطيف أن “عدد الذين ساهموا وشاركوا في سرقة القرن كبير، ويطال إلى كبار رؤوس المسؤولين”. ولكنهم وربما “لأغراض إعلامية” وبسبب عدم ظهور أسمائهم وصورهم استطاعوا أن “يركزوا فقط على نور زهير، لأنه لا ينتمي لحزب أو أي كيان سياسي في العلن”، بحسب عبداللطيف. ويضيف أن “الجريمة يشترك فيها العديد من رجال الأعمال والوزراء وكثير من السياسيين القياديين”، و”إذا ما اتضحت كل الأسماء على وجه الواقع ستسقط العملية السياسية”. “سرقة القرن” ليست الأولى التي تحصل في العراق، وشهد البلد بعد 2003 عدة سرقات في وزارة الدفاع والكهرباء والتجارة، ورغم ظهور أسماء المتورطين على الساحة “تم مسح إجرامهم لاحقا”، بحسب القاضي العراقي. ويعتقد أن “زهير سيكون العلامة المميزة لكشف كلمة سر القضية في قاعة المحكمة” في حال تم إلقاء القبض عليه مجددا. وبدوره يرى الخبير القانوني العراقي، أمير الدعمي أن “زهير عينة بسيطة من ثلة فاسدة لا تزال تنهب وتسرق خيرات العراق”. ويقول: “الفساد لم يبدأ بزهير ولن ينتهي عنده. أصبح سلسلة”، معتبرا من جانب آخر أن الأخير “قد يكون ضحية في مجتمع الفاسدين. هناك كثير من الفاسدين أكبر من نور زهير ولم تكشف أسماؤهم من قبل الدولة، لأنهم متسترون بنفوذ قوي”. ومن ناحية أخرى يعتقد الأكاديمي العراقي، هيثم الهيتي أن “نهاية قضية سرقة القرن ستكون في نهاية الصراع الداخلي في العراق، والذي يدور بين النخب التي تسيطر على الواقع السياسي”. ويقول الهيتي: “أن يحكم أو يسجن زهير شيء مستحيل، لأنه مرتبط بأجندات سياسية واضحة”. وفي حين أن تغطية ملف القضية بشكل كلي سيكون أمرا في بالغ الصعوبة يتوقع الأكاديمي أن “تكون هناك تسويات شكلية لتسويف الأمر وإنهائه بطريقة معينة”. |