كانت لافتة مبادرة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بالاتصال بوزير خارجية بريطانيا ديفيد لامي في توقيتها وفي مضمونها، حيث شدد “على ضرورة الضغط على العدو الاسرائيلي لوقف استهدافه المباشر للبلدات والقرى الجنوبية ما يؤدي الى سقوط شهداء وجرحى ودمار شديد”، مبديًا خشيته من “ان تتسبب دورة العنف الحالية بتصعيد لا تحمد عقباه”.
فهذا الاتصال يكتسب هذه الأهمية في هذا التوقيت بالذات لأنه يتزامن مع مفاوضات الدوحة، مع ما يصل إلى رئيس الحكومة من أجوائها عبر القنوات الديبلوماسية، ولأنه جاء بعد إصرار “حزب الله” على الرد على عملية اغتيال الحاج فؤاد شكر، وبعد نشره فيديو عن منشأة “عماد4” بعنوان “جبالنا خزائننا”، من دون معرفة ما المقصود من التعميم في كلمة “جبالنا”، وهي كلمة مطّاطة تحمل في طياتها الكثير من تلميحات البعض من أن هذه الكلمة تعني السلسلتين الشرقية والغربية.
فما قصده الرئيس ميقاتي بتحذيره من أن دورة العنف الحالية ستتسبب بتصعيد لا تحمد عقباه هو أن تمادي إسرائيل في استهداف القرى الجنوبية وما تحصده صواريخها من خسائر في الأرواح والممتلكات لن تقتصر مفاعيلها على ما كانت عليه عمليات القصف المتبادل، والتي كانت تلتزم إلى حدود معينة بما كان يُسمّى بـ “قواعد الاشتباك”، لأن “حزب الله”، وكما يبدو، لن يكتفي بالردّ التقليدي على اعتداءات إسرائيل، التي تعتمد منذ فترة سياسة “الأرض المحروقة”. وهذا ما يؤكده شهود عيان عن حال القرى الجنوبية وما يحيط بها من حقول وبساتين وأحراج.
فلو لم يكن رئيس الحكومة لديه هذا المنسوب من القلق لما كان لجأ إلى كلمة “لا تُحمد عقباه”، وهو المعروف عنه حرصه على انتقاء كلماته بدقة، وتصميمه أيضًا على بذل كل المستطاع لكي يبعد عن الجنوب الأذى الذي يتعرّض له كل يوم، وبالتالي عن كل لبنان في ضوء تعرّضه لتهديدات نتنياهو وغيره من المسؤولين الإسرائيليين، الذين يعتبرون أن وقف إطلاق النار في غزة لن ينسحب بالضرورة على لبنان. وهذا هو بيت القصيد. وهذا ما عناه الرئيس ميقاتي عندما طلب من الوزير البريطاني ممارسة أقصى أنواع الضغط على تل أبيب لوقف اعتداءاتها اليومية على القرى الجنوبية، لأنه يعرف تمام المعرفة أن إسرائيل تهدف من خلال توسيع نطاق اعتداءاتها استفزاز “حزب الله”، الذي أبلغ الجميع أن لصبره حدودًا، وأن مراعاته لما يمكن أن يتعرّض له لبنان من أخطار لن تدوم طويلًا، خصوصًا أنه يعتبر أن إسرائيل ترى في عدم تعامله معها بما يتناسب مع حجم اعتداءاتها موقف ضعف منه.
من هنا يمكن فهم مدى قلق رئيس الحكومة من تطّور أمور الميدان إلى مستوى لن تعود الاتصالات الديبلوماسية تفيد في شيء. فحين تسود لغة المدفع وأزيز الصواريخ تخبو لغة العقل والتعقّل والمنطق. ولكن هذه الخشية لا تعني الاستسلام لمنطق الميدان، ولا لمنطق “دواني بالتي كانت هي الداء”، وهو من القائلين بأن العنف يستسقي عنفًا أشدّ، وأن الجميع في الحرب خاسرون، وأن مآل أي حرب ذهاب جميع المتحاربين في نهاية المطاف إلى تسويات على غرار ما هو حاصل الآن في الدوحة، وإن بدت مفاوضاتها متعثرة بعض الشيء، وهو أمر طبيعي بعد كل هذا الحقد والكراهية المتبادلة.
فالذين يعرفون الرئيس ميقاتي تمام المعرفة يؤكدون أنه لن يستسلم بسهولة، بل لديه من الإرادة الصلبة ما يكفي لتحويل الألم إلى أمل جديد في مستقبل أكثر إشراقًا أيًّا تكن الصعوبات والعراقيل.